فصل: (فرع: قنوت الوتر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:صلاة الوتر]

الوتر سنة، وليس بواجب ولا فرض.
وبه قال مالك، والثوري، والليث، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، وأكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة وحده: (هو واجب، وليس بفرض)؛ لأن الواجب عنده ما ثبت بدليل غير مقطوع به، والفرض ما ثبت بدليل مقطوع به.
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث هي على فرض، ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الفجر».
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي، ولم تكتب عليكم: النحر، والوتر، وركعتا الفجر».
وروى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق مسنون، وليس بواجب».
إذا ثبت هذا: فأقل الوتر: ركعة، وأكثره: إحدى عشرة ركعة، وأدنى الكمال منه: ثلاث ركعات.
وقال مالك: (أقل الوتر: ركعة، وليس لما بعدها من الشفع حد، وأقله: ركعتان، ويكره أن يوتر بثلاث ركعات بتسليمة، إلا أن يكون مع الإمام، فيوتر بوتره، ولا يخالفه).
وقال أبو حنيفة: (الوتر: ثلاث ركعات، ولا تجوز الزيادة عليها، ولا النقصان عنها).
دليلنا: ما روى أبو أيوب الأنصاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق مسنون، وليس بواجب، فمن أحب أن يوتر بخمس.. فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث.. فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة.. فليفعل».
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بإحدى عشرة ركعة».
وبهذا: يبطل مذهب مالك، وأبي حنيفة.

.[فرع: ما يقرأ في الوتر]

وإذا أوتر بثلاث، فالأفضل - عندنا - أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثالثة بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين.
وقال أبو حنيفة: (لا يقرأ المعوذتين، بل يقتصر على سورة الإخلاص).
ودليلنا: ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ ما ذكرناه.
ويجوز أن يجمع بين جميع ركعات الوتر بتسليمة واحدة.
قال أصحابنا ببغداد: والأفضل أن يسلم من كل ركعتين، ويفرد ركعة الوتر وحدها بتسليمة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفصل بين الشفع والوتر».
وروي عن ابن عمر: (أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين، حتى يأمر بحاجته، فإن لم تكن له حاجة، قال: يا جارية، اعلفي الناضح)، ولا يعرف له مخالف وقال المسعودي [في "الإبانة" ق 77] في الأفضل أربعة أوجه:
أحدها: الأفضل أن يفصل بين الشفع والوتر بالتسليم؛ لما ذكرناه.
والثاني: الأفضل أن يجمع بين الثلاث بتسليمة، وهو اختيار الشيخ أبي زيد.
والثالث - وهو اختيار القفال -: أن الأفضل أن يجمع بين الجميع بتسليمة، إلا أن تكون ركعتان لصلاة، وركعة للوتر، فالأفضل أن يفصل الركعة وحدها.
والرابع: إن كان يصلي في جماعة، فالأفضل ألا يفصل؛ خشية الفرقة والفتنة بين الناس، وإن كان يصلي وحده.. فالأفضل أن يفصل.

.[فرع: قنوت الوتر]

والسنة أن يقنت في الركعة الأخيرة في الوتر، في النصف الأخير من شهر رمضان لا غير، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يستحب القنوت في الوتر في جميع السنة)، وبه قال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا؛ لما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بثلاث ركعات، ويقنت قبل الركوع».
وحكي عن بعض أصحابنا أنه قال: يستحب القنوت في الوتر في جميع شهر رمضان لا غير، والمذهب الأول.
ودليلنا: إجماع الصحابة، وذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يلي بهم التراويح عشرين ليلة، ولا يقنت إلا في النصف الثاني، ثم ينفرد في بيته، فيقال: أبق أبي)، وهذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد.
وروي «عن عمر: أنه قال: السنة إذا انتصف الشهر من رمضان: أن يلعن الكفرة في الوتر بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم قاتل الكفرة»، وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحديث أبي غير ثابت عند أصحاب الحديث.
وفي محل القنوت من الوتر وجهان:
أحدهما: بعد الركوع، وهو المنصوص في " حرملة "، ووجهه: حديث عمر، وأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح بعد الركوع»، فكان هذا مثله، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر.
والثاني: قبل الركوع، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح بعد الركوع، و في الوتر قبل الركوع»، والقياس يقتضي المخالفة بين النفل والفرض، كما خولف بين الخطبتين في الفرض والنفل، فكانت في الجمعة قبل الصلاة، وفي العيدين والخسوف والاستسقاء بعد الصلاة.
وقال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ". عندي: أنه أيهما فعل أجزأه؛ لأنه ورد الأثر بهما.
قال: وإذا قنت قبل الركوع.. فليس لأصحابنا فيه قول. وقد روي عن عمر وعلي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (أنهم كانوا يكبرون إذا فرغوا من القراءة قبل القنوت، ثم يقنتون)، وهو قول أبي حنيفة.
وقال الشيخ أبو نصر: وبفعل عمر، وعلي، وابن مسعود، أقول.
قيل للشيخ أبي حامد: هل يرفع يديه في دعاء القنوت؟ فقال: لم يذكر في الخبر، وليس يبعد أن يجوز فعله.
قال أصحابنا: ولم يذكر الشافعي ما يقنت به في الوتر، وإنما لم يذكره؛ لأنه نص عليه في قنوت الصبح، وهو الثمان الكلمات: «اللهم اهدني فيمن هديت..». إلى آخره.
قال القاضي أبو الطيب: وكان شيوخنا يدعون بعد الثمان الكلمات بالدعاء المروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القنوت، وقد مضى ذكره في قنوت الصبح.
قال ابن الصباغ: وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
قال ابن الصباغ: فإذا فرغ من القنوت.. فالمستحب أن يقول: «سبحان الله الملك القدوس، رب الملائكة والروح»؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول ذلك ثلاثًا، ويمد صوته بـ: «رب الملائكة والروح». فإذا فرغ.. مسح وجهه بيديه.

.[فرع: وقت الوتر]

ووقت الوتر بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الثاني؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر».
فإن كان ممن تهجد له.. فالأفضل أن يوتر بعد صلاة العشاء، وإن كان له تهجد.. فالأفضل أن يوتر بعد التهجد؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل.. فليوتر من أول الليل، ثم ليرقد، ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل. فليوتر آخر الليل».
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر: متى توتر؟، فقال: أوتر، ثم أنام،
ثم أقوم، فقال: أخذت بالحزم، وقال لعمر: متى توتر؟، فقال: أنام، ثم أقوم، ثم أوتر، فقال: أخذ هذا بالقوة». وهذا أفضل.
فإن أوتر أول الليل: ثم نام، ثم قام للتهجد، فإنه لا ينتقض وتره عندنا.
وروي عن علي، وابن عمر: (أنه ينتقض الوتر)، فيصلي ركعة، ويضيفها إلى الوتر؛ ليصير شفعًا، ثم يتهجد، ثم يوتر بركعة بعد التهجد.
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وتران في ليلة»، ولـ: (أن ابن عباس كره لابن عمر أن يشفع وتره)، وروي عن ابن عمر، وعمار بن ياسر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (ألَّا يشفع الرجل وتره).
فإن اعتقد أنه صلى العشاء فأوتر، ثم ذكر أنه لم يكن صلى العشاء.. لم يعتد بالوتر. وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يعتد بما قد أوتره).
دليلنا: أن وقت فعله بعد العشاء، فإذا فعله قبله.. لم يجزئه وإن كان مخطئًا، كما لو ظن أن وقت الفريضة قد دخل.. فصلاها، ثم بان أنه لم يدخل.
وأوكد هذه السنن الرواتب: الوتر، وركعتا الفجر؛ لأنه ورد فيهما من الأخبار، ما لم يرد في غيرهما.
وأيهما آكد؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (ركعتا الفجر آكد)، وبه قال أحمد، ومالك؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح».
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوها ولو طردتكم الخيل».
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».
ولأنها محصورة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، فكانت بالفرائض أشبه.
فإذا قلنا بهذا، فيليها في التأكيد الوتر.
والثاني: قال في الجديد: (الوتر آكد)، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إن الله زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن». وهذا أمر، وأقل أحواله: الاستحباب والتأكيد.
ولأنه مختلف في وجوبها، وركعتا الفجر مجمع على كونهما سنة.
قال في "الفروع": وقيل: هما سواء.
فإذا قلنا بالجديد، فاختلف أصحابنا فيما يلي الوتر في التأكيد:
فقال أبو إسحاق: يليها التهجد، ثم ركعتا الفجر بعد التهجد؛ لأن المزني [في " المختصر " (1 106) ] نقل عن الشافعي: (والوتر آكد، ويشبه أن يكون صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر)، ولأن التهجد كان واجبًا، ثم نسخ.
وقال أكثر أصحابنا: يلي الوتر في التأكيد: ركعتا الفجر، وهو الأصح؛ لما ذكرناه من الأخبار في ركعتي الفجر.
وما حكاه المزني في التهجد، فإنما أراد به الشافعي: الوتر لا التهجد، وقد بينه في "الأم" [1 125]، فقال: (وكذلك الوتر، وهو يشبه أن يكون صلاة التهجد). فأسقط المزني: (وهو).
وقد قيل في قَوْله تَعَالَى -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]
ومن السنن الرواتب: قيام شهر رمضان، وهو عشرون ركعة، بعشر تسليمات بعد العشاء، وأول من سنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا.. غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر».
فقوله: (إيمانًا) أي: مصدقًا بثواب الله. وقوله: (احتسابًا) أي: طالبًا لثواب الله. يقال: فلان يحتسب الأخبار، أي: يطلبها ويتوقعها.
قال أبو علي في "الإفصاح": وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم عشرين ركعة في الليلة الأولى، فلما كان في الليلة الثانية خرج، فاجتمع الناس إليه، وكثروا، فلما كان في الليلة الثالثة.. اجتمع الناس، فلم يخرج إليهم، فلما كان من الغد. قال: قد عرفت اجتماعكم، ولكن لم يمنعني من الخروج إلا مخافة أن يفرض عليكم في رمضان، فتعجزوا عنها».
وفي حديث أبي هريرة: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا ناس يصلون في ناحية من المسجد، فقال: من هؤلاء؟، فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي بهم، وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصابوا، ونعم ما صنعوا».
فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر كذلك، وفي زمن أبي بكر، وصدر من خلافه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ثم جعل الناس يصلون جماعة وفرادى، ويتبعون القراء والصوت الحسن، فخاف عمر الفتنة والافتراق، فقال: (أجعلتم القرآن أغاني؟ !)، فجمعهم على أبي بن كعب؛ لأنه كان آخر من أخذ القرآن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه عرض عليه القرآن في السنة التي مات فيها، فأخرج عمر القناديل إلى المسجد، وجعلهم جماعة واحدة، فكان أبي يصلي بهم عشرين ليلة، ثم ينفرد في بيته، فيقال: ابق أبي، ويتم بهم تميم الداري.
فعمر إنما كان منه إخراج القناديل، وجمع الناس جماعة واحدة، ولهذا روي: أن عمر خرج ذات ليلة، فرأى الناس يصلون جماعة واحدة، فقال: (إنها بدعة، ونعمت البدعة).
ورأى علي القناديل في المسجد، فقال: (رحم الله عمر، ونور قبره كما نور مساجدنا).
وقد روي عن علي: (أنه صلى بهم في شهر رمضان، وكان يسلم بهم من كل ركعتين، يقرأ في كل ركعة بخمس آيات).
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي: (فأما قيام رمضان: فصلاة المنفرد أحب إلي منه).
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهره، وإن صلاة التراويح على الانفراد أفضل بكل حال؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها في جماعة، ثم صلاها بعد ذلك منفردًا).
وقال أبو العباس وأكثر أصحابنا: بل فعلها جماعة أفضل؛ لما ذكرناه من إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يرد الشافعي بهذا: أن التراويح على الانفراد، أفضل من فعلها في الجماعة، وإنما أراد: أن صلاة التراويح، وإن سن لها الجماعة، فإن صلاة المنفرد - وهي الوتر، وركعتا الفجر - أحب إلي منه؛ للأخبار التي وردت بها، وقد اختلف في وجوب الوتر، وواظب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها في الحضر والسفر، ولو أراد: الانفراد في التراويح أفضل.. لكان يقول: وأما قيام رمضان: فصلاتها على الانفراد أحب إلي من صلاتها في جماعة.
وأما انفراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه قال: «خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها».
ومن أصحابنا من قال: إن كان الرجل يحفظ القرآن، وكان إذا تخلف عن المسجد والجماعة، لم تختل الجماعة بتخلفه، ولم يتعطل المسجد.. فصلاته في بيته أفضل من صلاته في المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة المرء في بيته، أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة».
ولم يذكر في "الإبانة" [ق 76] غير هذا، والصحيح: أن صلاتها في الجماعة أفضل؛ لإجماع الصحابة على ذلك، وإجماع أهل الأعصار بعدهم.
وأما الخبر: فأراد النوافل التي ليس لها سبب، ولا وقت معين.

.[فرع: عدة قيام رمضان وميزة أهل المدينة]

قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وهو أحب إلي).
وجملة ذلك: أن التراويح عندنا عشرون ركعة، بعشر تسليمات. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (هو ست وثلاثون). وتعلق بفعل أهل المدينة.
ودليلنا: ما ذكرناه من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وأما أهل المدينة: فإنما فعلوا هذا؛ لأنهم أرادوا أن يساووا أهل مكة، وذلك: أن أهل مكة كلما صلوا ترويحة: وهي أربع ركعات.. طافوا بالبيت سبعًا، فتحصل عنهم أربع طوفات، ولا بيت لأهل المدينة يطوفون به، فجعل أهل المدينة مكان كل طواف ترويحة، أربع ركعات، فزادوا أربع ترويحات، وهي ست عشرة ركعة مع التراويح، وهي عشرون ركعة، والوتر ثلاث ركعات، فحصل معهم: تسع وثلاثون ركعة.
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة أن يفعلوا ذلك؛ لأن أهل المدينة شرفوا بمهاجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلهذا أرادوا مساواة أهل مكة.
وقال الشيخ أبو حامد: فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.. أحب إلينا من فعل أهل المدينة.

.[مسألة:صلاة الضحى]

قال الشيخ أبو إسحاق: ومن السنن الراتبة صلاة الضحى، وأفضلها ثمان ركعات؛ لما روت أم هانئ بنت أبي طالب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها ثمان ركعات».
وأقلها: ركعتان؛ لما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على كل سلامى من أحدكم صدقة، وتجزئ من ذلك ركعتان يصليها من الضحى».
قال أبو عبيد: و (السلامى): قصب اليدين والرجلين، قال الشاعر:
لا يشتكين عملاً ما أنقين ** ما دام مخ في سلامى أو عين ووقتها: إذا أشرقت الشمس إلى الزوال، ولم يذكر أحد من أصحابنا: أن الضحى من السنن الرواتب.

.[فرع: قضاء الرواتب]

ومن فاته شيء من هذه السنن الراتبة في وقتها.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يقضي. وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنها صلاة نفل، فإذا فات وقتها.. لم تقض، كصلاة الخسوف، والاستسقاء.
فعلى هذا: إذا صلاها في غير وقتها.. لم تكن سنة راتبة، وإنما تكون نافلة لا سبب لها، ولا يجوز فعلها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
والثاني: تقضى، وهو الصحيح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة، أو نسيها.. فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقت لها».
وقد ينام عن الفريضة والنافلة.
ولأنها صلاة راتبة بوقت، فلم تسقط بفوات الوقت إلى غير بدل، كالفرائض.
فقولنا: (راتبة بوقتٍ)، احتراز من الخسوف والاستسقاء؛ لأنها راتبة، لكن في غير وقت معين.
وقولنا: (إلى غير بدل) احتراز من الجمعة؛ فإنها صلاة راتبة بوقت، وإذا فاتت.. لم تقض، لكن تسقط إلى بدل، وهو الظهر.
فعلى هذا: يجوز قضاء السنن الراتبة، ويجوز فعلها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
وقال أبو إسحاق المروزي: يجوز قضاؤها، قولاً واحدًا.
والموضع الذي قال الشافعي فيه: (لا تقضى)، أراد به: لا تقضى على التأكيد الذي يصليها في وقتها. وهذا اختيار القاضي أبي الطيب.

.[مسألة:النوافل غير المؤقتة]

وأما النوافل التي ليست بأتباع للفرائض: فكل وقت ليس بمنهي عن الصلاة فيه، فهو وقت لها، إلا أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار.
والدليل ليه: قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، وهذا ورد في صلاة الليل؛ لأن تجافي الجنب عن المضجع، إنما يكون بالليل، ثم قال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. فدل على أن ثواب من يقوم بالليل غير محصور.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أطال قيام الليل.. خفف الله عنه يوم القيامة».
وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كثرت صلاته بالليل.. حسن الله وجهه بالنهار».
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله امرأ أيقظ زوجته، فإن أبت.. نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها، فإن أبى.. نضحت الماء في وجهه».
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
فإن اختار أن يجزئ الليل جزأين.. فالجزء الأخير أفضل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وقَوْله تَعَالَى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].
ولأن آخر الليل ينقطع فيه الذكر، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذاكر الله في الغافلين، كشجرة خضراء بين أشجار يابسة».
وإن اختار أن يجزئ الليل أثلاثا.. فالجزء الأوسط أفضل.
وقال مالك: (الجزء الأخير أفضل).
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب الصلاة إلى الله تعالى، صلاة داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه»، ولأن الذاكرين الله في ذلك الوقت أقل، فكانت الصلاة فيه أفضل.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويكره أن يقوم الليل كله؛ لما «روى عبد الله بن عمرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: أتصوم النهار؟. قلت: نعم. قال: وتقوم الليل؟. قلت: نعم. قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي.. فليس مني».
وأفضل التطوع في البيت؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا».
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة»، ولأنه أبعد من الرياء.